معنى آلام المسيح وموته — خطة الآب الخلاصية
ليست آلام يسوع المسيح وموته نهاية مأساوية لقصة نبيلة، بل هي الذروة المجيدة لخطة الآب الأزلية لخلاص البشر. لقد عزم الله الآب، منذ الأزل، قبل تأسيس العالم، أن يُخلّص البشرية من خلال تقديم ابنه الحبيب ذبيحةً فدائية. ففي الصليب، ظهر للعالم بوضوح محبة الآب وعدله وحكمته. إن تأمل هذا السر العجيب يقودنا إلى عبادة أعمق، ويُحوّل مسار حياتنا وسلوكنا اليومي.
الآب سبق فعين آلام المسيح لأجل خلاصنا
لم تكن حادثة الصليب مجرد تطور مأساوي أو نتيجة لخيانة يهوذا أو مؤامرة رؤساء الكهنة، بل كانت جزءاً من التدبير الإلهي الثابت، إذ أن المسيح، كما يشهد الرسول بطرس، "سُبق فعُرِف قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم" (١ بطرس ١: ٢٠). وحتى عندما أسلمه أعداؤه، لم يكن ذلك خارج إرادة الله، بل كما يقول القديس لوقا في سفر الأعمال: "هذا يسوع، قد أُسلِم حسب المشورة المحتومة وعلم الله السابق..." (أعمال ٢: ٢٣). بل ويضيف إشعياء النبي أن ما حدث كان بحسب رضا الله الآب: "ولكن يهوه سُرّ بأن يسحقه بالحزن إن جعل نفسه ذبيحة إثم" (إشعياء ٥٣: ١٠).
الآب أرسل ابنه ليحمل خطايانا
من محبة لا يُقاس مداها، أرسل الآب ابنه الوحيد إلى عالمنا، لا ليُدين العالم بل ليحمله على كتفيه ويُطهّره من خطاياه. يعلن يوحنا الرسول هذه الحقيقة قائلاً: "بهذا أُظهِرت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به" (١ يوحنا ٤: ٩). فالله لم يرسل ابنه ليكون نبيًّا فقط، بل حملًا يحمل آثامنا، كما قال إشعياء: "والرب وضع عليه إثم جميعنا" (إشعياء ٥٣: ٦). وهذه هي بشارة الخلاص التي لخصها المسيح في يوحنا ٣: ١٦ حين قال: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية".
الآب أظهر محبته من خلال آلام المسيح
إن الصليب هو البرهان الأعظم على محبة الآب. فقد بيّن الله محبته لنا بطريقة لا تحتمل الشك: "ولكن الله بيّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة، مات المسيح لأجلنا" (رومية ٥: ٨). وإن كان الأب الأرضي يشفق على ابنه، فإن الآب السماوي لم يُشفق على ابنه الوحيد، بل كما يشهد بولس الرسول: "الذي لم يُشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين" (رومية ٨: ٣٢).
الآب أظهر عدالته من خلال الصليب
لقد أراد الله الآب أن يمد رحمته للخاطئ، دون أن يُفرّط في عدله. لذلك كان الصليب هو الموضع الذي فيه التقت العدالة بالرحمة. يقول يوحنا: "وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً" (١ يوحنا ٢: ٢). وفي رومية ٣:٢٦ نقرأ: "ليكون باراً ويُبرّر من هو من الإيمان بيسوع". وكان لا بد من دم مسفوك، كما يقول بولس في العبرانيين: "وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عبرانيين ٩: ٢٢).
الآب أعطى السلام والشفاء من خلال آلام المسيح
بمشيئة الآب، صار الابن رجلاً للأوجاع ومختبر الحزن، حتى يمنح شعبه سلاماً داخلياً وشفاءً روحياً. "تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره شُفينا" (إشعياء ٥٣: ٥). ولم يكن هذا فعلاً فردياً من الابن فقط، بل عمل مشترك نابع من مشيئة الآب، كما يشير بولس: "سُرّ الآب أن يُصالِح به الكل لنفسه، عاملاً السلام بدم صليبه" (كولوسي ١: ١٩–٢٠).
الآب فدانا بدم ابنه
لقد افتدانا الآب ليس بفضة ولا بذهب، بل بأثمن ما يمكن أن يُقدَّم: دم ابنه الوحيد. يقول بطرس: "عالمين أنكم افتُديتم... لا بأشياء تفنى... بل بدم كريم، كما من حملٍ بلا عيب ولا دنس، دم المسيح" (١ بطرس ١: ١٨–١٩). ويضيف بولس في أفسس: "الذي فيه لنا الفداء بدمه، غفران الخطايا، حسب غنى نعمته" (أفسس ١: ٧).
الآب أعطانا الغلبة على الخطية من خلال موت المسيح
بموت المسيح، لم يفتدِنا الآب فقط، بل حطم قيود الخطية التي كانت تستعبدنا. يكتب بولس: "إنساننا العتيق قد صُلب معه، لكي يُبطَل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد للخطية" (رومية ٦: ٦). وهكذا، يقدر المؤمن أن يحيا بالنعمة، إذ "الخطية لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رومية ٦: ١٤). وهذه النعمة تُثمر في حياة عملية، حيث "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غلاطية ٥: ٢٤).
الآب أعطى الغلبة على الموت والشيطان
بإرساله ابنه إلى الموت، هزم الآب سلطان الموت وفضح إبليس. يكتب كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لكي يُبطل بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس" (عبرانيين ٢: ١٤). ويؤكد بولس في كولوسي أن المسيح "جرّد الرياسات والسلاطين، أشهرهم جهاراً، ظافراً بهم فيه" (كولوسي ٢: ١٥).
الآب يدعونا لحمل الصليب والاتحاد بآلام ابنه
دعوة الآب لا تقتصر على التمتع بخلاص الصليب، بل تمتد إلى دعوتنا لحياة الصليب. يقول الرب يسوع: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني" (لوقا ٩: ٢٣). كما يدعونا بولس إلى تقديم أجسادنا ذبيحة حية، فيقول: "فأطلب إليكم... أن تُقدِّموا أجسادكم ذبيحة حية، مقدسة، مرضية عند الله، عبادتكم العقلية" (رومية ١٢: ١).
الخاتمة
إن الآلام والموت اللذين احتملهما المسيح، لم يكونا صدفة، بل هما قلب خطة الآب للخلاص. في المسيح، أعلن الآب محبته وعدله ورحمته، وفتح الباب للحياة الأبدية. فلنقف بإجلال أمام هذا السر، ولنحيا في قوة صليب الابن، مستسلمين كل يوم لإرادة الآب.
صلاة ختامية
أيها الآب السماوي،
نشكرك من أعماق قلوبنا لأنك أحببتنا حباً أزلياً، وأتممت خلاصنا بآلام وموت ابنك الوحيد. لم تشفق عليه، بل بذلته من أجلنا. أعطنا أن نحيا في شكرٍ دائم، وفي تكريسٍ كامل، وأن نحمل صورة ابنك المصلوب القائم من الأموات.
لك المجد، أيها الآب، مع ابنك الحبيب وروحك القدوس، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين.
✝ القمص أبرآم سليمان
#آلام_المسيح، #خطة_الخلاص، #محبة_الآب، #الصليب_والقيامة، #عدالة_الله، #حمل_الله، #الفداء_الأبدي، #حق_الكتاب، #الإيمان_المسيحي، #رسالة_الإنجيل
Comments
Post a Comment